سورة آل عمران - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


الإصعاد: ابتداء السفر، والمخرج. والصعود: مصدر صعد رقى من سفل إلى علو، قاله: الفراء، وأبو حاتم والزجاج. وقال القتبي: أصعد أبعد في الذهاب، فكأنه إبعاد كإبعاد الارتفاع. قال:
ألا أيهذا السائلي أين صعدت *** فإن لها في أرض يثرب موعدا
وأنشد أبو عبيدة:
قد كنت تبكيني على الاصعاد *** فاليوم سرحت وصاح الحادي
وقال المفضل: صعد، وأصعد، وصعد بمعنى واحد. والصعيد: وجه الأرض. وصعدة: إسم من أسماء الأرض. وأصعد: معناه دخل في الصعيد.
فات الشيء أعجز إدراكه، وهو متعد، ومصدره: فوت، وهو قياس فعل المتعدي.
النعاس: النوم الخفيف. يقال: نعس ينعس نعاساً فهو ناعس، ولا يقال: نعسان. وقال الفراء: قد سمعتها ولكني لا أشتهيها.
المضجع: المكان الذي يتكأ فيه للنوم، ومنه: {واهجروهن في المضاجع} والمضاجع: المصارع، وهي أماكن القتل، سميت بذلك لضجعة المقتول فيها.
الغزو القصد وكذلك المغزى، ثم أطلق على قصد مخصوص وهو: الإيقاع بالعدو. وتقول: غزا بني فلان، أوقع بهم القتل والنهب وما أشبه ذلك. وغزى: جمع غازٍ، كعاف وعفى. وقالوا: غزاء بالمد. وكلاهما لا ينقاس. أجرى جمع فاعل الصفة من المعتل اللام مجرى صحيحها، كركع وصوام. والقياس: فعله كقاض وقضاة. ويقال: أغزت الناقة عسر لقاحها. وأتان مغزية تأخر نتاجها ثم تنتج.
يقال: لأن الشيء يلين، فهو ليّن. والمصدر: لين ولَيان بفتح اللام، وأصله في الجرم وهو نعومته، وانتفاء خشونته، ولا يدرك إلا باللمس. ثم توسعوا ونقلوه إلى المعاني.
الفظاظة الجفوة في المعاشرة قولاً وفعلاً. قال الشاعر في ابنة له:
أخشى فظاظة عم أو جفاء أخ *** وكنت أخشى عليها من أذى الكلم
الغلظ: أصله في الجرم، وهو تكثر أجزائه. ثم يستعمل في قلة الانفعال والإشفاق والرحمة. كما قال:
يبكي علينا ولا نبكي على أحد *** لنحن أغلظ أكباداً من الإبل
الانفضاض: التفرق. وفضضت الشيء كسرتُه، وهو تفرقة أجزائه.
الخذل والخذلان: هو الترك في موضع يحتاج فيه إلى التارك. وأصله: من خذل الظبي، ولهذا قيل لها: خاذل إذا تركتها أمها. وهذا على النسب أي ذات خذل، لأن المتروكة هي الخاذل بمعنى مخذولة، ويقال: خاذلة. قال الشاعر:
بجيد مغزلة إدماء خاذلة *** من الظباء تراعي شادناً خرقا
ويقال أيضاً لها: خذول فعول، بمعنى مفعول. قال:
خذول تراعي ربرباً بخميلة *** تناول أطراف البريد وترتدي
الغلول: أخذ المال من الغنيمة في خفاء. والفعل منه غلَّ يَغُلُّ بضم الغين. والغل الضغن، والفعل منه غلَّ يغِلُ بكسر الغين. وقال أبو علي: تقول العرب: أغل الرجل إغلالاً، خان في الأمانة. قال النمر:
جزى الله عني جمرة بن نوفل *** جزاء مغل بالأمانة كاذب
وقال بعض النحويين: الغلول مأخوذ من الغلل وهو الماء الجاري في أصول الشجر والروح.
ويقال أيضاً في الغلول: أغل إغلالاً وأغلّ الحارز سرق شيئاً من اللحم مع الجلد. ويقال: أغله وجده غالاً كقولك: أبخلته وجدته بخيلاً. السخط مصدر سخط، جاء على القياس. ويقال فيه: السُخْطُ بضم السين وسكون الخاء. ويقال: مات فلان في سخطة الملك أي في سخطة. والسخط الكراهة المفرطة، ويقابله الرضا. {إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم} هذه الجمل التي تضمنت التوبيخ والعتب الشديد. إذ هو تذكار بفرار من فرّ وبالغ في الهرب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إليه. فمن شدّة الفرار واشتغاله بنفسه وهو يروم نجاتها لم يصغ إلى دعاء الرسول، وهذا من أعظم العتب حيث فرّ، والحالة أن رسول الله يدعوه إليه.
وقرأ الجمهور: تصعدون مضارع أصعد، والهمزة في أصعد للدخول. أي: دخلتم في الصعيد، ذهبتم فيه. كما تقول: أصبح زيد، أي دخل في الصباح. فالمعنى: إذ تذهبون في الأرض. وتبين ذلك قراءة أبي: إذ تصعدون في الوادي. وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن ومجاهد وقتادة واليزيدي: تصعدون من صعد في الجبل إذا ارتقى إليه. وقرأ أبو حيرة: تصعدون من تصعد في السلم، وأصله: تتصعدون، فحذفت إحدى التاءين على الخلاف في ذلك، أي تاء المضارعة؟ أم تاء تفعل؟ والجمع بينهما أنهم أولاً أصعدوا في الوادي لما أرهقهم العدو، وصعدوا في الجبل. وقرأ ابن محيصن وابن كثير في رواية شبل: يصعدون ولا يلوون بالياء على الخروج من الخطاب إلى الغائب. والعامل في إذا ذكر محذوفة. أو عصيتم، أو تنازعتم، أو فشلتم، أو عفا عنكم، أو ليبتليكم، أو صرفكم، وهذان عن الزمخشري، وما قبله عن ابن عطية. والثلاثة قبله بعيدة لطول الفصل. والأول جيد، لأنَّ ما قبل إذ جمل مستقلة يحسن السكوت عليها، فليس لها تعلق إعرابي بما بعدها، إنما تتعلق به من حيث أنَّ السياق كله في قصة واحدة. وتعلقه بصرفكم جيد من حيث المعنى، وبعفا عنكم جيد من حيث القرب.
ومعنى ولا تلوون على أحد: أي لا ترجعون لأحد من شدة الفرار. يقال: لوى بكذا ذهب به. ولوى عليه: كر عليه وعطف. وهذا أشد في المبالغة من قوله:
أخو الجهد لا يلوي على من تعذرا لأنه في الأية نفي عام، وفي هذا نفي خاص، وهو على من تعذرا، وقال دريد ابن الصمة: وهل يرد المنهزم شيء؟ وقرئ تلو من بإبدال الواو همزة وذلك لكراهة اجتماع الواوين وقياس هذه الواو المضمومة، أن لا تبدل همزة لأن الضمة فيها عارضة، ومتى وقعت الواو غير، وهي مضمومة فلا يجوز الإبدال منها همزة إلا بشرطين أحدهما: أن تكون الضمة لازمة. الثاني: أن لا تكون يمكن تخفيفها بالإسكان. مثال ذلك: فووج وفوول. وغوور. فهنا يجوز فؤوج وقؤول وغؤور بالهمز.
ومثل كونها عارضة: هذا دلوك. ومثل إمكان تخفيفها بالإسكان: هذا سور، ونور، جمع سوار ونوار. فإنك تقول فيهما: سور ونور. ونبه بعض أصحابنا على شرط آخر وهو لا بد منه، وهو: أن لا يكون مدغماً فيها نحو: تعود، فلا يجوز فيه تعود بإبدال الواو المضمومة همزة. وزاد بعض النحويين شرطاً آخر وهو: أن لا تكون الواو زائدة نحو: الترهوك وهذا الشرط ليس مجمعاً عليه. وقرأ الحسن: تلون، وخرجوها على قراءة من همز الواو، ونقل الحركة إلى اللام، وحذف الهمزة. قال ابن عطية: وحذفت إحدى الواوين الساكنين، وكان قد قال في هذه القراءة: هي قراءة متركبة على قراءة من همز الواو المضمومة، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام انتهى. وهذا كلام عجيب تخيل هذا الرجل أنه قد نقلت الحركة إلى اللام فاجتمع واوان ساكنان، إحداهما: الواو التي هي عين الكلمة، والأخرى: واو الضمير. فحذفت إحدى الواوين لأنهما ساكنتان، وهذا قول من لم يمعن في صناعة النحو. لأنها إذا كانت متركبة على لغة من همز الواو ثم نقل حركتها إلى اللام، فإن الهمزة إذ ذاك تحذف، ولا يلتقي واوان ساكنان. ولو قال: استثقلت الضمة على الواو، لأن الضمة كأنها واو، فصار ذلك كأنه جمع ثلاث واواوت، فتنقلب الضمة إلى اللام، فالتقى ساكنان، فحذفت الأولى منهما، ولم يبهم في قوله إحدى الواوين لأمكن ذلك في توجيه هذه القراءة الشاذة، أما أنْ يبنى ذلك على أنه على لغة من همز على زعمه، فلا يتصور. ويحتمل أن يكون مضارع ولي وعدي بعلي، على تضمين معنى العطف. أي: لا تعطفون على أحد. وقرأ الأعمش وأبو بكر في رواية عن عاصم: تلوون من ألوى، وهي لغة في لوى. وظاهر قوله على أحد العموم.
وقيل: المراد النبي صلى الله عليه وسلم، وعبر بأحد عنه تعظيماً له وصوناً لاسمه أن يذكر عند ذهابهم عنه، قاله: ابن عباس والكلبي.
وقرأ حميد بن قيس على أُحُد بضم الهمزة والحاء، وهو الجبل. قال ابن عطية: والقراءة الشهيرة أقوى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على الجبل إلا بعد ما فرّ الناس عنه، وهذه الحال من إصعادهم إنما كانت وهو يدعوهم انتهى. وقال غيره: الخطاب فيه لمن أمعن في الهرب ولم يصعد الجبل على من صعد. ويجوز أن يكون أراد بقوله: ولا تلوون على أحد، أي من كان على جبل أحد، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه الذين صعدوا. وتلوون هو من ليّ العنق، لأن مَن عرج على الشيء يلوي عنقه، أو عنان دابته. والألف واللام في الرسول للعهد. ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، روي أنه كان يقول: «إليّ عباد الله» والناس يفرون عنه.
وروي: «أي عباد الله ارجعوا» قاله: ابن عباس: وفي رواية: «ارجعوا إليّ فإني رسول الله من يكر له الجنة» وهو قول: السدي، والربيع. قال القرطبي: وكان دعاؤه تغيير للمنكر، ومحال أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم المنكر وهو الانهزام ثم لا ينهى عنه.
ومعنى في أخراكم: أي في ساقتكم وجماعتكم الأخرى، وهي المتأخرة. يقال: جئت في آخر الناس وأخراهم، كما تقول: في أولهم وأولاهم بتأويل مقدّمتهم وجماعتهم الأولى. وفي قوله: في أخراكم دلالة عظيمة على شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الوقوف على أعقاب الشجعان وهم فرار والثبات فيه إنما هو للأبطال الأنجاد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس. قال سلمة: كنا إذا احمرّ البأس اتقيناه برسول الله صلى الله عليه وسلم. {فأثابكم غماً بغم} الفاعل بأثابكم هو الله تعالى. وقال الفراء: الإثابة هنا بمعنى المغالبة انتهى. وسمي الغم ثواباً على معنى أنه قائم في هذه النازلة مقام الثواب الذي كان يحصل لولا الفرار. فهو نظير قوله:
تحية بينهم ضرب وجيع ***
وقوله:
أخاف زياد أن يكون عطاؤه *** أداهم سوداً أو محدرجة سمرا
جعل القيود والسياط عطاء، ومحدرجة بمعنى مدحرجة. والباء في بغم: إمّا أن تكون للمصاحبة، أو للسبب. فإن كانت للمصاحبة وهي التي عبر بعضهم عنها بمعنى: مع. والمعنى: غماً مصاحباً لغم، فيكون الغمان إذ ذاك لهم. فالأول: هو ما أصابهم من الهزيمة والقتل. والثاني: إشراف خالد بخيل المشركين عليهم، قاله: ابن عباس، ومقاتل. وقيل: الغم الأوّل سببه فرارهم الأوّل، والثاني سببه فرارهم حين سمعوا أن محمداً قد قتل قاله: مجاهد. وقيل: الأوّل ما فاتهم من الغنيمة وأصابهم من الجراح والقتل. والثاني حين سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل، قاله: قتادة والربيع. وقيل: عكس هذا الترتيب، وعزاه ابن عطية إلى قتادة ومجاهد. وقيل: الأول ما فاتهم من الغنيمة والفتح. والثاني: إشراف أبي سفيان عليهم، ذكره الثعلبي. وقيل: الأول هو قتلهم وجراحهم وكل ما جرى في ذلك المأزق. والثاني: إشراف أبي سفيان على النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه، قاله: السدي ومجاهد أيضاً وغيرهما. وعبر الزمخشري عن هذا المعنى وهو اجتماع الغمين لهم بقوله: غماً بعد غم، وغماً متصلاً بغم من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجرح، والقتل، وظفر المشركين، وفوت الغنيمة، والنصر انتهى كلامه. وقوله: غماً بعد غم تفسير للمعنى، لا تفسير إعراب. لأن الباء لا تكون بمعنى بعد. وإن كان بعضهم قد ذهب إلى ذلك. ولذلك قال بعضهم: إن المعنى غماً على غم، فينبغي أن يحمل على تفسير المعنى، وإن كان بعضهم قد ذهب إلى ذلك.
وإن كانت الباء للسبب وهي التي عبر بعضهم عنها أنها بمعنى الجزاء، فيكون الغم الأوّل للصحابة. والثاني قال الحسن وغيره: متعلقه المشركون يوم بدر. والمعنى: أثابكم غماً بالغم الذي أوقع على أيديكم بالكفار يوم بدر. قال ابن عطية: فالباء على هذا باء معادلة، كما قال أبو سفيان يوم بدر: والحرب سجال. وقال قوم منهم الزجاج، وتبعه الزمخشري: متعلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: جازاكم غماً بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر المؤمنين بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الضمير في: فأثابكم للرسول، أي فآساكم في الاغتمام، وكما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرهما غمه ما نزل بكم، فأثابكم عما اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله، ولم يثربكم على عصيانكم ومخالفتكم، وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم، كيلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر الله، ولا على ما أصابكم من غلبة العدوّ انتهى كلامه. وهو خلاف الظاهر. لأن المسند إليه الأفعال السابقة هو الله تعالى، وذلك في قوله: {ولقد صدقكم الله وعده} وقوله: {ثم صرفكم عنهم ليبتليكم} {ولقد عفا عنكم} والله فيكون قوله: والله فيكون قوله: فأثابكم مسنداً إلى الله تعالى. وذكر الرسول إنما جاء في جملة حالية نعى عليهم فرارهم مع كون من اهتدوا على يده يدعوهم، فلم يجيء مقصوداً لأن يحدث عنه، إنما الجملة التي ذكر فيها في تقدير المفرد إذ هي حال. وقال الزمخشري: فأثابكم عطف على صرفكم انتهى. وفيه بعدٌ لطول الفصل بين المتعاطفين. والذي يظهر أنه معطوف على تصعدون ولا تلوون، لأنه مضارع في معنى الماضي، لأن إذ تصرف المضارع إلى الماضي، إذ هي ظرف لما مضى. والمعنى: إذ صعدتم وما لويتم على أحد فأثابكم.
{لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم} اللام لام كي، وتتعلق بقوله: فأثابكم. فقيل: لا زائدة لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحزن. فالمعنى: على أنه غمهم ليحزنهم عقوبة لهم على تركهم موافقتهم قاله: أبو البقاء وغيره. وتكون كهي في قوله: {لئلا يعلم أهل الكتاب} إذ تقديره: لأن يعلم. ويكون أعلمهم بذلك تبكيتاً لهم، وزجراً أنْ يعودوا لمثله. والجمهور على أن لا ثابتة على معناها من النفي. واختلفوا في تعليل الإثابة بانتفاء الحزن على ما ذكر.
فقال الزمخشري: لكيلا تحزنوا لتتمرّنوا على تجرع الغموم، وتضروا باحتمال الشدائد، فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع، ولا على مصيب من المضار انتهى. فجعل العلة في الحقيقة ثبوتية، وهي التمرن على تجرع الغموم والاعتياد لاحتمال الشدائد، ورتب على ذلك انتفاء الحزن، وجعل ظرف الحزن هو مستقبل لا تعلق به بقصة أحد، بل لينتفي الحزن عنكم بعد هذه القصة. وقال ابن عطية: المعنى لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم، فأنتم أذيتم أنفسكم.
وعادة البشر أنَّ جاني الذنب يصبر للعقوبة، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما وقع هو مع ظنه البراءة بنفسه انتهى. وهذا تفسير مخالف لتفسير الزمخشري. ومن المفسرين من ذهب إلى أن قوله: لكيلا تحزنوا متعلق بقوله: ولقد عفا عنكم، ويكون الله أعلمهم بذلك تسلية لمصابهم وعوضاً لهم عن ما أصابهم من الغم، لأن عفوه يذهب كل غم. وفيه بعد لطول الفصل، ولأن ظاهره تعلقه بمجاور، وهو فأثابكم.
قال ابن عباس: والذي فاتهم من الغنيمة، والذي أصابهم من الفشل والهزيمة، ومما تحتمله الآية: أنه لما ذكر اصعادهم وفرارهم مجدّين في الهرب في حال ادعاء الرسول صلى الله عليه وسلم إليه بالرجوع عن الهرب والانحياز إلى فئته، كان الجد في الهرب سبباً لاتصال الغموم بهم، وشغلهم بأنفسهم طلباً للنجاة من الموت، فصار ذلك أي: شغلهم بأنفسهم واغتمامهم المتصل بهم من جهة خوف القتل سبباً لانتفاء الحزن على فائت من الغنيمة، ومصاب من الجراح والقتل لإخوانهم، كأنه قيل: صاروا في حالة من اغتمامهم واهتمامم بنجاة أنفسهم بحيث لا يخطر لهم ببال حزن على شيء فايت ولا مصاب وإن جل، فقد شغلهم بأنفسهم لينتفي الحزن منهم. {والله خبير بما تعملون} هذه الجملة تقتضي تهديداً، وخص العمل هنا وإن كان تعالى خبيراً بجميع الأحوال من الأعمال والأقوال والنيات، تنبيهاً على أعمالهم من تولية الأدبار والمبالغة في الفرار، وهي أعمال تخشى عاقبتها وعقابها. {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً} الأمنة: الأمن، قاله: ابن قتيبة وغيره. وفرق آخرون فقالوا: الأمنة تكون مع بقاء أسباب الخوف، والأمن يكون مع زوال أسبابه. وقرأ الجمهور: أمنة بفتح الميم، على أنه بمعنى الأمن. أو جمع آمن كبار وبرره، ويأتي إعرابه. وقرأ النخعي وابن محيصن: أمْنة بسكون الميم، بمعنى الأمن. ومعنى الآية: امتنان الله عليهم بأمنهم بعد الخوف والغم، بحيث صاروا من الأمن ينامون. وذلك أن الشديد الخوف والغم لا يكاد ينام. ونقل المفسرون ما أخبرت به الصحابة من غلبة النوم الذي غشيهم كأبي طلحة: والزبير، وابن مسعود. واختلفوا في الوقت الذي غشيهم فيه النعاس.
فقال الجمهور: حين ارتحل أبو سفيان من موضع الحرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي وكان من المتحيزين إليه: «إذهب فانظر إلى القوم فإنْ كانوا جنبوا الخيل فهم ناهضون إلى مكة، وإن كانوا على خيلهم فهم عائدون إلى المدينة فاتقوا الله واصبروا» ووطنهم على القتال، فمضى علي ثم رجع فأخبر: أنهم جنبوا الخيل، وقعدوا على أثقالهم عجالاً، فأمن المؤمنون المصدقون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألقى الله تعالى عليهم النعاس. وبقي المنافقون الذين في قلوبهم مرض لا يصدقون، بل كان ظنهم أنّ أبا سفيان يؤم المدينة، فلم يقع على أحد منهم نوم، وإنما كان همهم في أحوالهم الدنيوية.
وثبت في البخاري من حديث أبي طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه، وفي طريق رفعت رأسي فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته. وهذا يدل على أنهم غشيهم النعاس وهم في المصاف وسياق الآية والحديث الأول يدلان على خلاف ذلك. قال تعالى {فأثابكم غماً بغم}. والغم كان بعد أن كسروا وتفرقوا عن مصافهم ورحل المشركون عنهم. والجمع بين هذين القولين: أن المصاف الذي أخبر عنه أبو طلحة كان في الجبل بعد الكسرة، أشرف عليهم أبو سفيان من علو في الخيل الكثيرة، فرماهم من كان انحاز إلى الجبل من الصحابة بالحجارة، وأغنى هناك عمر حتى أنزلوهم، وما زالوا صافين حتى جاءهم خبر قريش أنهم عزموا على الرّحيل إلى مكة، فأنزل الله عليهم النعاس في ذلك الموطن، فأمنوا ولم يأمن المنافقون. والفاعل بأنزل ضمير يعود على الله تعالى، وهو معطوف على فأثابكم. وعليكم يدل على تجلل النعاس واستعلائه وغلبته، ونسبة الإنزال مجاز لأن حقيقته في الإجرام. وأعربوا أمنة مفعولاً بأنزل، ونعاساً بدل منه، وهو بدل اشتمال. لأن كلاًّ منهما قد يتصور اشتماله على الآخر، أو يتصور اشتمال العامل عليهما على الخلاف في ذلك. أو عطف بيان، ولا يجوز على رأي الجمهور من البصريين لأن من شرط عطف البيان عندهم أن يكون في المعارف. أو مفعول من أجله وهو ضعيف، لاختلال أحد الشروط وهو: اتحاد الفاعل، ففاعل الإنزال هو الله تعالى، وفاعل النعاس هو المنزل عليهم، وهذا الشرط هو على مذهب الجمهور من النحويين. وقيل: نعاساً هو مفعول أنزل، وأمنة حال منه، لأنه في الأصل نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال. التقدير: نعاساً ذا أمنة، لأن النعاس ليس هو إلا من. أو حال من المجرور على تقدير: ذوي أمنة. أو على أنه جمع آمن، أي آمنين، أو مفعول من أجله أي لأمنة قاله: الزمخشري، وهو ضعيف بما ضعفنا به قول من أعرب نعاساً مفعولاً من أجله.
{يغشى طائفة منكم} هم المؤمنون. ويدل هذا على أن قوله: ثم أنزل عليكم، عام مخصوص، لأنه في الحقيقة ما أنزل إلا على من آمن.
وقرأ حمزة والكسائي: تغشى بالتاء حملاً على لفظ أمنة هكذا قالوا. وقالوا: الجملة في موضع الصفة، وهذا ليس بواضح، لأن النحويين نصوا على أن الصفة مقدمة على البدل وعلى عطف البيان إذا اجتمعت. فمن أعرب نعاساً بدلاً أو عطف بيان لا يتم له ذلك، لأنه مخالف لهذه القاعدة، ومن أعربه مفعولاً من أجله ففيه أيضاً الفصل بين النعت والمنعوت بهذه الفضلة. وفي جواز ذلك نظر مع ما نبهنا عليه من فوات الشرط وهو: اتحاد الفاعل.
فإن جعلت تغشى جملة مستأنفة وكأنها جواب لسؤال من سأل: ما حكم هذه الأمنة؟ فأخبر تعالى تغشى طائفة منكم، جاز ذلك. وقال ابن عطية: أسند الفعل إلى ضمير المبدل منه انتهى. لما أعرب نعاساً بدلاً من أمنة، كان القياس أن يحدث عن البدل لا عن المبدل منه، فحدث هنا عن المبدل منه، فحدث هنا عن المبدل منه. فإذا قلت: إن هنداً حسنها فاتن، كان الخبر عن حسنها، هذا هو المشهور في كلام العرب. وأجاز بعض أصحابنا أن يخبر عن المبدل منه كما أجاز ذلك ابن عطية في الآية، واستدل على ذلك بقوله:
إن السيوف غدوها ورواحها *** تركت هوازن مثل قرن الأعضب
ويقول الآخر:
وكأنه لهق السراة كأنه *** ما حاجبيه معين بسواد
فقال: تركت، ولم يقل تركاً. وقال معين: ولم يقل معينان، فأعاد الضمير على المبدل منه وهو السيوف، والضمير في كأنه ولم يعد على البدل وهي: غدوها ورواحها وحاجبيه. وما زائدة بين المبدل منه والبدل. ولا حجة فيما استدل به لاحتمال أن يكون انتصاب غدوها ورواحها على الظرف لا على البدل، ولاحتمال أن يكون معين خبراً عن حاجبيه، لأنه يجوز أن يخبر عن الاثنين اللذين لا يستغني أحدهما عن الآخر، كاليدين والرجلين والعينين والحاجبين إخبار الواحد. كما قال:
لمن زحلوقه زل *** بها العينان تنهل
وقال:
وكأنّ في العينين حبّ قرنفل *** أو سنبلاً كحلت به فانهلت
فقال تنهل وكحلت له، ولم يقل تنهلان ولا كحلتا به. وهذا كما أجازوا أن يخبر عن الواحد من هذين أخبار المثنى، قال:
إذا ذكرت عيني الزمان الذي مضى *** بصحراء فلج ظلتا تكفان
فقال: ظلتا ولم يقل: ظلت تكف. وقرأ الباقون: يغشى بالياء، حمله على لفظ النعاس.
{وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله} قال مكي: أجمع المفسرون على أن هذه الطائفة هم المنافقون، وقالوا: غشي النعاس أهل الإيمان والإخلاص، فكان سبباً لأمنهم وثباتهم. وعرى منه أهل النفاق والشك، فكان سبباً لجزعهم وانكشافهم عن مراتبهم في مصافهم انتهى.
ويقال: أهمني الشيء، أي: كان من همي وقصدي. أي: مما أهم به وأقصد. وأهمني الأمر أقلقني وأدخلني في الهم، أي الغم. فعلى هذا اختلف المفسرون في قد أهمتهم أنفسهم. فقال قتادة والرّبيع وابن إسحاق وأكثرهم: هو بمعنى الغم، والمعنى: أن نفوسهم المريضة وظنونهم السيئة قد جلبت إليهم خوف القتل، وهذا معنى قول الزمخشري: أو قد أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الغموم والأشجان، فهم في التشاكي. وقال بعض المفسرين: هو مِن هَمَّ بالشيء أراد فعله. والمعنى: أهمتهم أنفسهم المكاشفة ونبذ الدين. وهذا القول من قال: قد قتل محمد فلترجع إلى ديننا الأول، ونحو هذا من الأقوال.
وقال الزمخشري في قوله: قد أهمتهم أنفسهم، ما بهم إلا همّ أنفسهم، لا هم الدّين، ولا هم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين انتهى. فيكون من قولهم: أهمني الشيء أي: كان من همي وإرادتي. والمعنى: أهمهم خلاص أنفسهم خاصة، أي: كان من همهم وإرادتهم خلاص أنفسهم فقط، ومن غير الحق يظنون أن الإسلام ليس بحق، وأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب ويزول.
ومعنى ظن الجاهلية عند الجمهور: المدة الجاهلية القديمة قبل الإسلام، كما قال: {حمية الجاهلية} {ولا تبرجن تبرج الجاهلية} وكما تقول: شعر الجاهلية. وقال ابن عباس: سمعت أبي في الجاهلية يقول: اسقنا كأساً دهاقاً. وقال بعض المفسرين: المعنى ظن الفرقة الجاهلية، والإشارة إلى أبي سفيان ومن معه، ونحا إلى هذا القول: قتادة والطبري. قال مقاتل: ظنوا أن أمره مضمحل. وقال الزجاج: إن مدّته قد انقضت. وقال الضحاك عن ابن عباس: ظنوا أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل. وقيل: ظن الجاهلية إبطال النبوّات والشرائع. وقيل: يأسهم من نصر الله وشكهم في سابق وعده بالنصرة. وقيل: يظنون أن الحق ما عليه الكفار، فلذلك نصروا. وقيل: كذبوا بالقدر. قال الزمخشري: وظن الجاهلية كقولك: حاتم الجود ورجل صدق، تريد الظن المختص بالملة الجاهلية. ويجوز أنْ يراد ظن أهل الجاهلية، أي لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك الجاهلون بالله. انتهى وظاهر قوله: هل لنا من الأمر من شيء الاستفهام؟ فقيل: سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم، هل لهم معاشر المسلمين من النصر والظهور على العدوّ شيء أي نصيب؟ وأجيبوا بقوله: {قل إن الأمر كله لله} وهو النصر والغلبة. {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي}، {وإن جندنا لهم الغالبون}. وقيل: المعنى ليس النصر لنا، بل هو للمشركين. وقال قتادة وابن جريج: قيل لعبد الله بن أبيّ بن سلول: قتل بنو الخزرج، فقال: وهل لنا من الأمر من شيء؟ يريد: أن الرأي ليس لنا، ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا ولم نخرج ولم يقتل أحد منا. وهذا منهم قول بأجلين. وذكر المهدوي وابن فورك: أن المعنى لسنا على حق في اتباع محمد. ويضعف هذا التأويل الرد عليهم بقوله: قل. فأفهم أن كلامهم إنما هو في معنى سوء الرأي في الخروج، وأنه لو لم يخرج لم يقتل أحد.
وعلى هذا المعنى وما قبله من قول قتادة وابن جريج يكون الاستفهام معناه النفي. ولما أكد في كلامهم بزيادة من في قوله: من شيء، جاء الكلام مؤكداً بأنَّ، وبولغ في توكيد العموم بقوله: كله لله. فكان الجواب أبلغ.
والخطاب بقوله: قل، متوجه إلى الرسول بلا خلاف. والذي يظهر أنه استفهام باق على حقيقته، لأنهم أجيبوا بقوله: قل إن الأمر كله لله.
ولو كان معناه النفي لم يجابوا بذلك، لأنّ من نفى عن نفسه أن يكون له شيء من الأمر لا يجاوب بذلك، إلا إنْ قدر مع جملة النفي جملة ثبوتية لغيرهم، فكان المعنى: ليس لنا من الأمر من شيء بل لغيرنا ممن حملنا على الخروج وأكرهنا عليه، فيمكن أن يكون ذلك جواباً لهذا المقدّر. وهذه الجملة الجوابية معترضة بين الجمل التي أخبر الله بها عنهم.
والواو في قوله: وطائفة، واو الحال. وطائفة مبتدأ، والجملة المتصلة به خبره. وجاز الابتداء بالنكرة هنا إذ فيه مسوغان: أحدهما: واو الحال وقد ذكرها بعضهم في المسوغات، ولم يذكر ذلك أكثر أصحابنا وقال الشاعر:
سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا *** محياك أخفى ضوؤه كل شارق
والمسوغ الثاني: أن الموضع موضع تفصيل. إذ المعنى: يغشى طائفة منكم، وطائفة لم يناموا، فصار نظير قوله:
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له *** بشق وشق عندنا لم يحوّل
ونصب طائفة على أن تكون المسألة من باب الاشتغال على هذا التقدير من الإعراب جائز. ويجوز أن يكون قد أهمتهم في موضع الصفة، ويظنون الخبر. ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً، والجملتان صفتان، التقدير: ومنكم طائفة. ويجوز أن يكون يظنون حالاً من الضمير في أهمتهم، وانتصاب غير الحق. قال أبو البقاء: على أنه مفعول أول لتظنون، أي أمراً غير الحق، وبالله الثاني. وقال الزمخشري: غير الحق في حكم المصدر، ومعناه: يظنون بالله ظن الجاهلية، وغير الحق تأكيد ليظنون كقولك: هذا القول غير ما تقول، وهذا القول لا قولك، انتهى. فعلى هذا لم يذكر ليظنون مفعولين، وتكون الباء ظرفية كما تقول: ظننت بزيد. وإذا كان كذلك لم تتعد ظننت إلى مفعولين، وإنما المعنى: جعلت مكان ظني زيداً. وقد نص النحويون على هذا. وعليه:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج *** سراتهم في السائريّ المسرد
أي: اجعلوا مكان ظنكم ألفي مدجج. وانتصاب ظن على أنه مصدر تشبيهي، أي: ظناً مثل ظن الجاهلية. ويجوز في: يقولون أن يكون صفة، أو حالاً من الضمير في يظنون، أو خبراً بعد خبر على مذهب من يجيز تعداد الأخبار في غير ما اتفقوا على جواز تعداده. ومن شيء في موضع مبتدأ، إذ من زائدة، وخبره في لنا، ومن الأمر في موضع الحال، لأنه لو تأخر عن شيء لكان نعتاً له، فيتعلق بمحذوف. وأجاز أبو البقاء أن يكون من الأمر هو الخبر، ولنا تبيين وبه تتم الفائدة كقوله تعالى: {ولم يكن له كفواً أحد} وهذا لا يجوز: لأن ما جاء للتبيين العامل فيه مقدر، وتقديره: أعني لنا هو جملة أخرى، فيبقى المبتدأ والخبر جملة لا تستقل بالفائدة، وذلك لا يجوز. وأما تمثيله بقوله: ولم يكن له كفواً أحد فهما لا سواء، لأن له معمول لكفواً، وليس تبييناً.
فيكون عامله مقدراً، والمعنى: ولم يكن أحد كفواً له، أي مكافياً له، فصار نظير لم يكن له ضار بالعمرو، فقوله: لعمرو ليس تبينناً، بل معمولاً لضارب. وقرأ الجمهور كله بالنصب تأكيداً للأمر. وقرأ أبو عمر: وكله على أنه مبتدأ، ويجوز أن يعرب توكيداً للأمر على الموضع على مذهب من يجيز ذلك وهو: الجرمي، والزجاج، والفراء. قال ابن عطية: ورجح الناس قراءة الجمهور، لأن التأكيد أملك بلفظة كلّ انتهى. ولا ترجيح، إذ كل من القراءتين متواتر، والابتداء بكل كثير في لسان العرب.
{يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك} قيل: معناه يتسترون بهذه الأقوال التي ليست بمحض كفر، بل هي جهالة. ويحتمل أن يكون إخباراً عما يخفونه من الكفر الذي لا يقدرون أن يظهروا منه أكثر من هذه النزغات. وقيل: الذي أخفوه قولهم: لو كنا في بيوتنا ما قتلنا هاهنا. وقيل: الندم على حضورهم مع المسلمين بأحد.
{يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا} قال الزبير بن العوام فيما أسند عنه الطبري: والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف والنعاسُ يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم حين قال: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. ومعتب هذا شهد بدراً، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره، وكان مغموصاً عليه بالنفاق. والمعنى: ما قتل إشرافنا وخيارنا، وهذا إطلاق اسم الكل على البعض مجازاً.
وقوله: يقولون، يجوز أن يكون هو الذي أخفوه، فيكون ذلك تفسيراً بعد إبهام قوله: ما لا يبدون لك. ومعناه: يقولون في أنفسهم أو بعضهم لبعض.
وقوله: من الأمر، فسَّر الأمر هنا بما فسر في قول عبد الله بن أبي بن سلول: هل لنا من الأمر من شيء. فقيل: المعنى لو كان الأمر كما قال محمد إن الأمر كله لله ولأوليائه وإنهم الغالبون، لما غلبنا قط، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة، وقيل: من الرأي والتدبير. وقيل: من دين محمد. أي لسنا على حق في اتباعه.
وجواب لو هو الجملة المنفية بما. وإذا نفيت بما فالفصيح أن لا تدخل عليه اللام.
قيل: وفي قصة أحد اضطراب. ففي أولها أن عبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين رجعوا ولم يشهدوا أحداً، فعلى هذا يكون قالوا هذا بالمدينة، ولم يقتل أحد منهم ولا من أصحابهم بالمدينة، وإنما قتلوا بأحد، فكيف جاء قوله هاهنا، وحديث الزبير في سماعه معتباً يقول ذلك دليل على أن معتباً حضر أحداً؟ فإن صح حديث الزبير فيكون قد تخلف عن عبد الله بعض المنافقين وحضر أحداً، فيتجه قوله هاهنا، وإنْ لم يصح فيوجه قوله: هاهنا إلى أنه إشارة إلى أحد إشارة القريب الحاضر لقرب أحد من المدينة.
{قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} هذا النوع عند علماء البيان يسمى الاحتجاج النظري: وهو أن يذكر المتكلم معنى يستدلّ علي


{لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم} مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر الفريقين: فريق الرضوان، وفريق السخط، وأنهم درجات عند الله مجملاً من غير تفصيل، فصَّل أحوالهم وبدأ بالمؤمنين، وذكر ما امتن عليهم به من بعث الرسول إليهم تالياً لآيات الله، ومبيناً لهم طريق الهدى، ومطهراً لهم من أرجاس الشرك، ومنقذاً لهم من غمرة الضلالة بعد أن كانوا فيها. وسلاهم عما أصابهم يوم أحد من الخذلان والقتل والجرح، لما أنالهم يوم بدر من الظفر والغنيمة. ثم فصَّل حال المنافقين الذين هم أهل السخط بما نص عليه تعالى.
ومعنى مَن تطوّل وتفضل، وخص المؤمنين لأنهم هم المنتفعون ببعثه، والظاهر عمومه. فعلى هذا يكون معنى من أنفسهم من أهل ملتهم، كما قال: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} والمعنى: من جنس بني آدم، والامتنان بذلك لحصول الأنس بكونه من الإنس، فيسهل المتلقى منه، وتزول الوحشة والنفرة الطبيعية التي بين الجنسين المختلفين، ولمعرفة قوى جنسهم. فإذا ظهرت المعجزة أدركوا أنَّ ذلك ليس في قوى بني آدم، فعلموا أنّه من عند الله، فكان ذلك داعية إلى الإجابة. ولو كان الرسول من غير الجنس لتخيل أن تلك المعجزة هي في طباعه، أشار إلى هذه العلة الماتريدي.
وقيل: المراد بالمؤمنين العرب، لأنه ليس حيٌّ من أحياء العرب إلا له فيهم نسب، من قبل أمهاته، إلا بني تغلب لنصرانيتهم قاله: النقاش، فصار بعثه فيهم شرفاً لهم على سائر الأمم.
ويكون معنى من أنفسهم: أي من جنسهم عربياً مثلهم. وقيل: من ولد إسماعيل، كما أنهم من ولده. قال ابن عباس وقتادة: قال من أنفسهم لكونه معروف النسب فيهم، معروفاً بالأمانة والصدق. قال أبو سليمان الدمشقي: ليسهل عليهم التعليم منه، لموافقة اللسان. وقال الماوردي: لأن شرفهم يتم بظهور نبي منهم انتهى.
والمنة عليهم بكونه من أنفسهم، إذْ كان اللسان واحداً، فيسهل عليهم أخذ ما يجب أخذه عنه. وكانوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة، فكان ذلك أقرب إلى تصديقه والوثوق به. وقرئ شاذاً: لمن منّ الله على المؤمنين بمن الجارة ومن مجرور بها بدل قد منّ. قال الزمخشري: وفيه وجهان: أنْ يراد لمن منّ الله على المؤمنين منه أو بعثه فيهم، فحذف لقيام الدلالة. أو يكون إذ في محل الرفع كإذا في قولك: أخطب ما يكون الأمير، إذ كان قائما بمعنى لمن مَنَّ الله على المؤمنين وقت بعثه انتهى.
أمّا الوجه الأوّل فهو سائغ، وقد حذف المبتدأ مع من في مواضع منها: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بها} {وما منا إلا له مقام} {وما دون ذلك} على قول.
وأما الوجه الثاني فهو فاسد، لأنه جعل إذ مبتدأة ولم يستعملها العرب متصرفة ألبتة، إنما تكون ظرفاً أو مضافاً إليها اسم زمان، ومفعولة باذكر على قول. أمّا أنْ تستعملَ مبتدأة فلم يثبت ذلك في لسان العرب، ليس في كلامهم نحو: إذ قام زيد طويل وأنت تريد وقت قيام زيد طويل. وقد قال أبو علي الفارسي: لم ترد إذ وإذا في كلام العرب إلا ظرفين، ولا يكونان فاعلين ولا مفعولين، ولا مبتدأين انتهى كلامه. وأمّا قوله: في محل الرفع كإذا، فهذا التشبيه فاسد، لأن المشبه مرفوع بالابتداء، والمشبه به ليس مبتدأ. إنما هو ظرف في موضع الخبر على زعم من يرى ذلك. وليس في الحقيقة في موضع رفع، بل هو في موضع نصب بالعامل المحذوف، وذلك العامل هو مرفوع. فإذا قال النحاة: هذا الظرف الواقع خبراً في محل الرفع، فيعنون أنه لما قام مقام المرفوع صار في محله، وهو في التحقيق في موضع نصب كما ذكرنا. وأما قوله في قولك: أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائماً، فهذا في غاية الفساد. لأن هذا الظرف على مذهب من يجعله في موضع خبر المبتدأ الذي هو أخطب، لا يجيز أن ينطق به، إنما هو أمر تقديري. ونصّ أرباب هذا المذهب وهم القائلون بإعراب أخطب مبتدأ، أنَّ هذه الحال سدت مسد الخبر، وأنه مما يجب حذف الخبر فيه لسد هذه الحال مسده. وفي تقرير هذا الخبر أربعة مذاهب، ذكرت في مبسوطات النحو.
وقرأ الجمهور: من أنفُسهم بضم الفاء، جمع نفس. وقرأت فاطمة، وعائشة، والضحاك، وأبو الجوزاء: من أنفَسهم بفتح الفاء من النفاسة، والشيء النفيس. وروي عن أنس أنه سمعها كذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى عليّ عنه عليه السلام: «أنا من أنفسكم نسباً وحسباً وصهراً، ولا في آبائي من آدم إلى يوم ولدت سفاح كلها نكاح والحمد لله».
قيل: والمعنى من أشرفهم، لأن عدنان ذروة ولد إسماعيل، ومضر ذروة نزار بن معد بن عدنان، وخندف ذروة مضر، ومدركة ذروة خندف، وقريش ذروة مدركة، وذروة قريش محمد صلى الله عليه وسلم. وفيما خطب به أبو طالب في تزويج خديجة رضي الله عنها وقد حضر معه بنو هاشم ورؤساء مضر: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع اسماعيل، وضئضئ معه، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوجاً، وحرماً آمناً، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إنَّ ابن أخي هذا محمد بن عبد الله من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل. وقال ابن عباس: ما خلق الله نفساً هي أكرم على الله من محمد رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أقسم بحياة أحد غيره فقال: لعمرك.
{يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} تقدّم تفسير هذه الجمل.
{وإن كانوا من قبل} أي من قبل بعثه.
{لفي ضلال} أي حيرة واضحة فهداهم به. وإنْ هنا هي الخففة من الثقيلة، وتقدّم الكلام عليها وعلى اللام في قوله: {وإن كانت لكبيرة} والخلاف في ذلك فأغنى عن إعادته هنا. وقال الزمخشري: إنْ هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، وتقديره: وإنّ الشأن والحديث كانوا من قبل لفي ضلال مبين. انتهى. وقال مكي: وقد ذكر أنه قبل إن نافية، واللام بمعنى إلا، أي: وما كانوا من قبلُ إلا في ضلال مبين، قال: وهذا قول الكوفيين. وأما سيبويه فإنه قال: إنْ مخففة من الثقيلة، واسمها مضمر، والتقدير على قوله: وإنهم كانوا من قبل في ضلال مبين. فظهر من كلام الزمخشري أنه حين خففت حذف اسمها وهو ضمير الشأن والحديث. ومن كلام مكي أنها حين خففت حذف اسمها وهو ضمير عائد على المؤمنين، وكلا هذين الوجهين لا نعرف. نحو: يا ذهب إليه. إنما تقرر عندنا في كتب النحو ومن الشيوخ أنّك إذا قلت: إن زيداً قائم ثم خففت، فمذهب البصريين فيها إذ ذاك وجهان: أحدهما: جواز الأعمال، ويكون حالها وهي مخففة كحالها وهي مشدّدة، إلا أنها لا تعمل في مضمر. ومنع ذلك الكوفيون، وهم محجوجون بالسماع الثابت من لسان العرب. والوجه الثاني: وهو الأكثر عندهم أن تهمل فلا تعمل، لا في ظاهر، ولا في مضمر لا ملفوظ به ولا مقدّر ألبتة. فإنْ وليها جملة اسمية ارتفعت بالابتداء والخبر، ولزمت اللام في ثاني مضمونيها إن لم ينف، وفي أولهما إن تأخر فنقول: إن زيد لقائم ومدلوله مدلول إن زيداً قائم. وإنْ وليها جملة فعلية فلا بد عند البصريين أن تكون من فواتح الابتداء. وإن جاء الفعل من غيرها فهو شاذ لا يقاس عليه عند جمهورهم. والجملة من قوله: وإن كانوا، حالية. والظاهر أن العامل فيها هو: ويعلمهم، فهو حال من المفعول.
{أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا} الهمزة للاستفهام الذي معناه الإنكار. وقال ابن عطية: دخلت عليها ألف التقرير، على معنى إلزام المؤمنين هذه المقالة في هذه الحال. وقال الزمخشري: ولمّا نصب بقلتم وأصابتكم في محل الجرّ بإضافة لما إليه، وتقديره: أقلتم حين أصابتكم، وأنَّى هذا نصب لأنه مقول، والهمزة للتقرير والتقريع. (فإن قلت): على مَ عطفت الواو هذه الجملة؟ (قلت): على ما مضى من قصة أحد من قوله: {ولقد صدقكم الله وعده} ويجوز أن تكون معطوفة على محذوف، فكأنه قال: أفعلتم كذا وقلتم حينئذ كذا؟انتهى.
أمّا العطف على ما مضى من قصة أحد من قوله: {ولقد صدقكم الله وعده}.
ففيه بعدٌ، وبعيد أن يقع مثله في القرآن. وأمّا العطف على محذوف فهو جار على ما تقرر في غير موضع من مذهبه، وقد رددناه عليه. وأما على مذهب الجمهور سيبويه وغيره قالوا: وأصلها التقديم، وعطفت الجملة الاستفهامية على ما قبلها. وأمّا قوله: ولما نصب إلى آخره وتقديره: وقلتم حينئذ كذا، فجعل لمّا بمعنى حين فهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما هو مذهب أبي علي الفارسي. زعم أنّ لمّا ظرف زمان بمعنى حين، والجملة بعدها في موضع جرّ بها، فجعلها من الظروف التي تجب إضافتها إلى الجمل، وجعلها معمولة للفعل الواقع جواباً لها في نحو: لما جاء زيد عمرو، فلما في موضع نصب بجاء من قولك: جاء عمرو. وأمّا مذهب سيبويه فلما حرف لا ظرف، وهو حرف وجوب لوجوب، ومذهب سيبويه هو الصحيح. وقد بينا فساد مذهب أبي علي من وجوه في كتابنا المسمى: بالتكميل.
والمصيبة: هي ما نزل بالمؤمنين يوم أحد من قتل سبعين منهم، وكفهم عن الثبات للقتال. وإسنادُ الإصابة إلى المصيبة هو مجاز، كإسناد الإرادة إلى الجدار، والمثلان اللذان أصابوهما. قال ابن عباس، والضحاك، وقتادة، والربيع، وجماعة: قتلهم يوم بدر سبعين، وأسرهم سبعين، فالمثلية وقعت في العدد من إصابة الرجال. وقال الزجاج: قتلهم يوم بدر سبعين وقتلهم يوم أحد اثنين وعشرين، فهو قتل بقتل، ولا مدخل للأسرى في الآية، لأنهم فدوا فلا مماثلة بين حالهم وبين قتل سبعين من المؤمنين، وقيل: المثلية في الانهزام. هزم المؤمنون الكفار يوم بدر، وهزموهم أولاً يوم أحد، وهزمهم المشركون في آخر يوم أحد. وملخص ذلك: هل المثلية في الإصابة من قتل وأسر، أو من قتل، أو من هزيمة؟ ثلاثة أقوال، والأظهر الأول. لأن قوله: قد أصبتم مثليها هو على طريق التفضل منه تعالى على المؤمنين بإدالتهم على الكفار، والتسلية لهم على ما أصابهم، فيكون ذلك بالأبلغ في التسلية. وتنبيههم على أنهم قتلوا منهم سبعين، وأسروا سبعين أبلغ في المنة وفي التسلية. وأدعى إلى أن يذكروا نعم الله عليهم السابقة، وأن يتناسوا ما جرى عليهم يوم أحد.
وأنى هذا: جملة من مبتدأ وخبر، وهي في موضع نصب على أنها معمولة لقوله: قلتم. قالوا ذلك على سبيل التعجب والإنكار لما أصابهم، والمعنى: كيف أصابنا هذا ونحن نقاتل أعداء الله، وقد وعدنا بالنصر وإمداد الملائكة؟! فاستفهموا على سبيل التعجب عن ذلك. وأنى سؤال عن الحال هنا، ولا يناسب أن يكون هنا بمعنى أين أو متى، لأنّ الاستفهام لم يقع عن المكان ولا عن الزمان هنا، إنما الاستفهام وقع عن الحالة التي اقتضت لهم ذلك، سألوا عنها على سبيل التعجب. وقال الزمخشري: أنى هذا من أين هذا، كقوله: {أنى لك هذا} لقوله: {من عند أنفسكم} وقوله: {من عند الله} انتهى كلامه.
والظرف إذا وقع خبر للمبتدأ ألا يقدر داخلاً عليه حرف جر غير في، أما أنْ يقدَّر داخلاً عليه مِنْ فلا، لأنه إنما انتصب على إسقاط في. ولك إذا أضمر الظرف تعدى إليه الفعل بوساطة في إلاّ أن يتسع في الفعل فينصبه نصب التشبيه بالمفعول به، فتقدير الزمخشري: أنى هذا، من أين هذا تقدير غير سائغ، واستدلاله على هذا التقدير بقوله: من عند أنفسكم، وقوله: من عند الله، وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ، وذهول عن هذه القاعدة التي ذكرناها. وأمّا على ما قررناه، فإنّ الجواب جاء على مراعاة المعنى، لا على مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ. وقد تقرر في علم العربية أن الجواب يأتي على حسب السؤال مطابقاً له في اللفظ، ومراعى فيه المعنى لا اللفظ. والسؤال بأنى سؤال عن تعيين كيفية حصول هذا الأمر، والجواب بقوله: من عند أنفسكم يتضمن تعيين الكيفية، لأنه بتعيين السبب تتعين الكيفية من حيث المعنى. لو قيل على سبيل التعجب والإنكار: كيف لا يحج زيد الصالح، وأجيب ذلك بأن يقال: بعدم استطاعته حصل الجواب وانتظم من المعنى، أنه لا يحج وهو غير مستطيع.
{قل هو من عند أنفسكم} الإضمار في هو راجع إلى المصيبة على المعنى، لا على اللفظ. وتقدم تفسير المصيبة في تفسير مقابل المثلين: أهو القتل المقابل للقتل والأسر، أو المقابل للقتل فقط؟ أو الانهزام المقابل للانهزامين؟ والمعنى: أن سبب هذه المصيبة صدر من عند أنفسكم. فقيل: هو الفداء الذي آثروه على القتل يوم بدر من غير إذن الله تعالى، قال معناه: عمر بن الخطاب، وعليّ، والحسن، وروى عليّ في ذلك: أنّه لما فرغت هزيمة المشركين يوم بدر جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم فداء الأسرى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين: أن يقدموا الأسرى فتضرب أعناقهم، أو يأخذوا الفداء على أن يقتل من أصحابك عدة هؤلاء الأسرى، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فذكر ذلك لهم فقالوا: يا رسول الله عشائرنا وأخواننا نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا، ويستشهد منا عدتهم، فليس في ذلك ما نكره». فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلاً. وقال الجمهور: هو مخالفة الرسول في الرأي حين رأى أن يقيم بالمدينة ويترك الكفار بشر مجلس، فخالفوا وخرجوا حتى جرت القصة. وقالت طائفة منهم ابن عباس، ومقاتل: هو عصيان الرماة وتسبيبهم الهزيمة على المؤمنين. وقد لخص الزمخشري هذه الأقوال الثلاثة أحسن تلخيص. فقال: المعنى أنتم السبب فيما أصابكم لاختياركم الخروج من المدينة، أو لتخليتكم المركز. وعن عليّ: لأخذكم الفداء من أساري بدر قبل أن يؤذَن لكم انتهى. ولم يعين الله تعالى السبب ما هو لطفاً بالمؤمنين في خطابه تعالى لهم.
والظاهر في قوله: {أنَّى هذا} هو من سؤال المؤمنين على سبيل التعجب.
وذكر الرازي أن الله لما حكي عن المنافقين طعنهم في الرسول بأن نسبوه إلى الغلول والخيانة، حكى عنهم شبهة أخرى في هذه الآية وهي قولهم: لو كان رسولاً من عند الله لما انهزم عسكره يوم أحد، وهو المراد من قولهم: أنَّى هذا. فأجاب عنه بقوله: قل هو من عند أنفسكم، أي هذا الانهزام إنما حصل بشؤم عصيانكم انتهى كلامه. ودل على أن قوله: أنى هذا من كلام المنافقين. وقال الماتريدي أيضاً: إنّه من كلام المنافقين. والظاهر ما قلناه أنه من كلام المؤمنين، وهم المخاطبون بقوله: {أو لما أصابتكم مصيبة} لأن المنافقين لم تصبهم مصيبة، لأنهم رجعوا مع عبد الله بن أبي ولم يحضروا القتال، إلا أن تجوز في قوله: أصابتكم مصيبة بمعنى أصابت أقرباءكم وأخوانكم، فهو يمكن على بعد.
{إن الله على كل شيء قدير} أي قادر على النصر، وعلى منعه، وعلى أن يصيب بكم تارة، ويصيب منكم أخرى. ونبه بذلك على أن ما أصابهم كان لوهن في دينهم، لا لضعف في قدرة الله، لأن من هو قادر على كل شيء هو قادر على دفاعهم على كل حال.
{وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله} هو يوم أحد. والجمعان، جمع النبي صلى الله عليه وسلم وكفار قريش، والخطاب للمؤمنين. وما موصولة مبتدأ، والخبر قوله: فبإذن الله، وهو على إضمار أي: فهو بإذن الله. ودخول الفاء هنا. قال الحوفي: لما في الكلام من معنى الشرط لطلبته للفعل. وقال ابن عطية: ودخلت الفاء رابطة مسددة. وذلك للإبهام الذي في ما فأشبه الكلام الشرط، وهذا كما قال سيبويه: الذي قام فله درهمان، فيحسن دخول الفاء إذا كان القيام سبب الإعطاء انتهى كلامه. وهو أحسن من كلام الحوفي، لأن الحوفي زعم أن في الكلام معنى الشرط. وقال ابن عطية: فأشبه الكلام الشرط. ودخول الفاء على ما قاله الجمهور وقرروه قلق هنا، وذلك أنهم قرّروا في جواز دخول الفاء على خبر الموصول أنّ الصلة تكون مستقلة، فلا يجيزون الذي قام أمس فله درهم، لأن هذه الفاء إنما دخلت في خبر الموصول لشبهه بالشرط. فكما أن فعل الشرط لا يكون ماضياً من حيث المعنى، فكذلك الصلة.
والذي أصابهم يوم التقى الجمعان هو ماض حقيقة، فهو إخبار عن ماض من حيث المعنى. فعلى ما قرّروه يشكل دخول الفاء هنا. والذي نذهب إليه: أنه يجوز دخول الفاء في الخبر واصلة ماضية من جهة المعنى لورود هذه الآية، ولقوله تعالى: {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} ومعلوم أن هذا ماض معنى مقطوع بوقوعه صلة وخبر، أو يكون ذلك على تأويل: وما يتبين إصابته إياكم.
كما تأولوا: {إنْ كان قميصه قدّ} أي إن تبين كون قميصه قدّ. وإذا تقرّر هذا فينبغي أن يحمل عليه قوله تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} فإن ظاهر هذه كلها أخبار عن الأمور الماضية. ويكون المعنى على التبين المستقبل.
وفسر الإذن هنا بالعلم. وعبر عنه به لأنه من مقتضايه قاله: الزَّجاج. أو بتمكين الله وتخليته بين الجمعين قاله: القفال. أو بمرأى ومسمع، أو بقضائه وقدره. وقال الزمخشري: فهو كائن بإذن الله، استعار الإذن لتخلية الكفار، وأنه لم يمنعهم منهم ليبتلهم، لأن الآذن مخل بين المأذون له ومراده. انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال، لأنَّ قتل الكفار للمؤمنين قبيح عنده، فلا إذن فيه. وقال ابن عطية: يحسن دخول الفاء إذا كان سبب الإعطاء، وكذلك ترتيب هذه الآية. فالمعنى: إنما هو وما أذن الله فيه فهو الذي أصاب، لكنْ قدّم الأهم في نفوسهم والأقرب إلى حسهم. والإذن: التمكين من الشيء مع العلم به انتهى كلامه. لما كان من حيث المعنى أن الإصابة مترتبة على تمكين الله، من ذلك حملُ الآية على ذلك، وادّعى تقديماً وتأخيراً، ولا تحتاج الآية إلى ذلك، لأنه ليس شرطاً وجزاء فيحتاج فيه إلى ذلك، بل هذا من باب الإخبار عن شيء ماض، والإخبار صحيح. أخبر تعالى أنّ الذي أصابهم يوم أحد كان لا محالة بإذن الله، فهذا إخبار صحيح، ومعنى صحيح، فلا نتكلف تقديماً ولا تأخيراً، ونجعله من باب الشرط والجزاء.
{وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا} هو على حذف مضاف أي: وليعلم إيمان المؤمنين، ويعلم نفاق الذين نافقوا. أو المعنى: وليميز أعيان المؤمنين من أعيان المنافقين. وقيل: ليكون العلم مع وجود المؤمنين والمنافقين مساوقاً للعلم الذي لم يزل ولا يزال. وقيل: ليظهر إيمان هؤلاء ونفاق هؤلاء. وقد تقدم تأويل مثل هذا في قوله: {لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب} وقالوا: تتعلق الآية بمحذوف أي: ولكذا فعل ذلك. والذي يظهر أنه معطوف على قوله: بإذن الله، عطف السبب على السبب. ولا فرق بين الباء واللام، فهو متعلق بما تعلقت به الباء من قوله: فهو كائن. والذين نافقوا هنا عبد الله بن أبي وأصحابه.
{وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا} القائل: رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري أبو جابر بن عبد الله لما انخذل عبدُ الله بن أبي في نحو ثلاثمائة تبعهم عبد الله فقال لهم: اتقوا الله ولا تتركوا نبيكم، وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، ونحو هذا من القول. فقال عبد الله بن أبي: ما أرى أن يكون قتال، ولو علمناه لكنا معكم.
فلما يئس منهم عبد الله قال: اذهبوا أعداء الله، فسيغني الله عنكم، ومضى حتى استشهد. قال السدي: وابن جريج، ومجاهد، والحسن، والضحاك، والفرّاء: معناه: كثروا السواد وإن لم تقاتلوا فتدفعون القوم بالتكثير. وقال أبو عون الأنصاري معناه: رابطوا، وهو قريب من الأول، لأن المرابط في الثغور دافع للعبد، إذ لولاه لطرقها. قال أنس: رأيت عبد الله بن أم مكتوم يوم القادسية وعليه درع بجر أطرافها، وبيده راية سوداء، فقيل له: أليس قد أنزل الله عذراً؟ قال: بلى ولكني أكثر المسلمين بنفسي. وقيل: القتال بالأنفس، والدفع بالأموال. وقيل: المعنى أو ادفعوا حمية، لأنه لمّا دعاهم أولاً إلى أن يقاتلوا في سبيل الله وجد عزائمهم منحلة عن ذلك، إذ لا باعث لهم في ذلك لنفاقهم، فاستدعى منهم أن يدفعوا عن الحوزة، فنبه على ما يقاتل لأجله: إمّا لإعلاء الدين، أو لحمى الذمار. ألا ترى إلى قول قزمان: والله ما قاتلت إلا على أحساب قومي. وقول الأنصاري وقد رأى قريشاً ترعى زرع قناة: أترعى زروع بني قيلة ولما تضارب، مع أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن لا يقاتل أحد حتى يأمره.
وأو على بابها من أنها لأحد الشيئين. وقيل: يحتمل أن تكون بمعنى الواو، فطلب منهم الشيئين: القتال في سبيل الله، والدفع عن الحريم والأهل والمال. فكفار قريش لا تفرق بين المؤمن والمنافق في القتل والسبي والنهب، والظاهر أن قوله: وقيل لهم، كلام مستأنف. قسم الأمر عليهم فيه بين أن يقاتلوا للآخرة، أو يدفعوا عن أنفسهم وأهليهم وأموالهم. حكى الله عنهم ما يدل على نفاقهم في هذا السؤال والجواب، ويحتمل أن يكون قوله: وقيل لهم معطوف على نافقوا، فيكون من الصلة.
{قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم} إنما لم ترد بالفاء لأنه جواب لسؤال اقتضاه دعاؤهم إلى القتال كأنه قيل: فماذا قالوا؟ فقيل: قالوا لو نعلم، ونعلمُ هنا في معنى علمنا، لأنّ لو من القرائن التي تخلص المضارع لمعنى الماضي إذا كانت حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره، فإذا كانت بمعنى إنْ الشرطية تخلص المضارع لمعنى الاستقبال. ومضمون هذا الجواب أنهم علقوا الاتباع على تقدير وجود علم القتال، وعلمهم للقتال منتف، فانتفى الاتباع واخبارهم بانتفاء علم القتال منهم إمّا على سبيل المكابرة والمكايدة، إذ معلوم أنه إذا خرج عسكران وتلاقيا وقد قصد أحدهما الآخر من شقة بعيدة في عدد كثير وعدد، وخرج إليهم العسكر الآخر من بلدهم للقائهم قبل أن يصلوا بلدهم واثقين بنصر الله مقاتلين في سبيل الله، وإن كانوا أقل من أولئك، أنه سينشب بينهم قتال لا محالة، فأنكروا علم ذلك رأساً لما كانوا عليه من النفاق والدغل والفرح بالاستيلاء على المؤمنين. وإمّا على سبيل التخطئة لهم في ظنهم أن ذلك قتال في سبيل الله.
وليس كذلك، إنما هو رمي النفوس في التهلكة، إذ لا مقاومة لهم بحرب الكفار لكثرتهم وقلة المؤمنين، لأن رأى عبد الله بن أبي كان في الإقامة بالمدينة وجعلها ظهراً للمؤمنين، وما كان يستصوب الخروج كما مرّ ذكره في قصة أحد.
{هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان} وجه الأقربية التي هي الزيادة في القرب إنهم كانوا يظهرون الإيمان، ولم تكن تظهر لهم إمارة تدل على الكفر، فلما انخذلوا عن المؤمنين وقالوا ما قالوا زادوا قرباً للكفر، وتباعدوا عن الإيمان. وقيل: هو على حذف مضاف أي: هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانخذال تقوية للمشركين.
وأقرب هنا افعل تفضيل، وهي من القرب المقابل للبعد. ويعدّي بإلى وباللام وبمن، فيقال: زيد أقرب لكذا، وإلى كذا، ومن كذا من عمرو. فمن الأولى ليست التي يتعدى بها افعل التفضيل مطلقاً في نحو: زيد أفضل من عمرو. وحرفا الجر هنا يتعلقان بأقرب، وهذا من خواص أفعل التفضيل إنه يتعلق به حرفا جر من جنس واحد، وليس أحدهما معطوفاً على الآخر. ولا بدلاً منه بخلاف سائر العوامل، فإنه لا يتعلق به حرفا جر من جنس واحد إلا بالعطف، أو على سبيل البدل. فتقول: زيد بالنحو أبصر منه بالفقه.
والعامل في يومئذ أقرب. ومنهم متعلق بأقرب أيضاً، والجملة المعوض منها التنوين هي السابقة، أي: هم قوم إذ قالوا: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم. وذهب بعض المفسرين فيما حكى النقاش: إلى أن أقرب ليس هو هنا المقابل للأبعد، وإنما هو من القَرَب بفتح القاف والراء وهو المطلب، والقارب طالب الماء، وليلة القرب ليلة الوداد، فاللفظة بمعنى الطلب. ويتعين على هذا القول التعدية باللام، ولا يجوز أن تعدّى بإلى ولا بمن التي لا تصحب كل أفعل التفضيل، وصار نظير زيد أقرب لعمرو من بكر. وأكثر العلماء على أن هذه الجملة تضمنت النص على كفرهم. قال الحسن: إذا قال الله: أقرب، فهو اليقين بأنهم مشركون. كقوله: {مائة ألف أو يزيدون} فالزيادة لا شك فيها، والمكلف لا ينفك عن الكفر أو الإيمان. فلما دلت على الأقربية من الكفر لزم حصول الكفر.
وقال الواحدي في الوسيط: هذه الآية دليل على أنَّ من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر، لأنه تعالى لم يطلق القول عليهم بتكفيرهم مع أنهم كانوا كافرين مع إظهارهم لقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله. قال الماتريدي: أقرب أي ألزم على الكفر، وأقبل له مع وجود الكفر منهم حقيقة، لا على القرب إليه قبل الوقوع والوجود لقوله: {إن رحمت الله قريب من المحسنين} أي هي لهم لا على القرب قبل الوجود، لكنهم لما كانوا أهل نفاق والكفر لم يفارق قلوبهم وما كان من إيمانهم، كان بظاهر اللسان قد يفارقها في أكثر أوقاتهم، وصفوا به.
ويحتمل أن يحمل على القرب من حيث كانوا شاكين في الأمر، والشاك في أمر الكفر والإيمان تارك للإيمان، فهو أقرب إلى الكفر. أو من حيث قالوا للمؤمنين: {ألم نكن معكم} وللكافرين: {ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين} أو من حيث ما أظهروا من الإيمان كذب، والكفر نفسه كذب. فما أظهروا من الإيمان فهو كذب إلى الكذب الذي هم أقرب إليه وهو الكفر، أو من حيث أنهم أحق به أن يعرفوا. كما جعل الله لهم أعلاماً يعرفون بها، أو من حيث لا يعبدون الله ولا يعرفونه، بل هم عباد الأصنام لاتخاذهم لها أرباباً، أو لتقرّبهم بها إلى الله، فإذا أصابتهم شدّة فرعوا إلى الله، والمؤمنون يرجعون إلى الله في الشدّة والرخاء.
{يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم} أي يظهرون من الإسلام ما يحقنون به دماءهم، ويحفظون أهليهم من السبي، وأموالهم من النهب. وليس ما يظهرون ما تنطوي عليه ضمائرهم، بل هو لا يتجاوز أفواههم ومخارج الحروف منها، ولم تع قلوبهم منه شيئاً. وذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم، وأنَّ إيمانهم موجود في أفواههم معدوم في قلوبهم، بخلاف إيمان المؤمنين في مواطأة عقد قلوبهم للفظ ألسنتهم. قال ابن عطية: بأفواههم توكيد مثل: يطير بجناحيه انتهى. ولا يظهر أنه توكيد، إذِ القولُ ينطلق على اللساني والنفساني، فهو مخصص لأحد الانطلاقين إلا إنْ قلنا: إنّ إطلاقه على النفساني مجاز، فيكون إذ ذاك توكيداً لحقيقة القول.
{والله أعلم بما يكتمون} أي من الكفر وعداوة الدين. وقال: أعلم، لأن علمه تعالى بهم علم إحاطة بتفاصيل ما يكتمونه وكيفياته، ونحن نعلم بعض ذلك علماً مجملاً. وتضمنت هذه الجملة التوعد الشديد لهم، إذ المعنى: ترتب الجزاء على علمه تعالى بما يكتمون.
{الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا} هذه الآية نظير قوله: {وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض} الآية وفسر الإخوان هنا بما فسر به هناك. وتحتمل لام الجر ما احتملته في تلك، وجوزوا في إعراب الذين وجوهاً: الرفع على النعت للذين نافقوا، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو على أنه بدل من الواو في يكتمون، والنصب على الذم أي: أذم الذين، والجرّ على البدل من الضمير في بأفواههم أو في قلوبهم.
والجملة من قوله: وقعدوا حالية أي: وقد قعدوا. ووقوع الماضي حالاً في مثل هذا التركيب مصحوباً بقد، أو بالواو، أو بهما، أو دونهما، ثابت من لسان العرب بالسماع. ومتعلق الطاعة هو ترك الخروج. والقعود كما قعدوا هم، وهذا منهم قول بالأجلين أي: لو وافقونا في التخلف والقعود ما قتلوا، كما لم نقتل نحن. وقرأ الحسن: ما قتلوا بالتشديد. {قل فادرؤا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين} أكذبهم الله تعالى في دعواهم ذلك، فكأنه قيل: القتل ضرب من الموت، فإنْ كان لكم سبيل إلى دفعه عن أنفسكم بفعل اختياري فادفعوا عنها الموت، وإن لم يكن ذلك دلّ على أنكم مبطلون في دعواكم.
والدرة: الدفع، وتقدّمت مادته في قوله: {فادارأتم فيها} وقال دغفل النسابة:
صادف درء السيل درأ يدفعه *** والعبء لا تعرفه أو ترفعه
والمعنى: إنْ كنتم صادقين في دعواكم أنَّ التحيل والتحرز ينجي من الموت، فجدّوا أنتم في دفعه، ولن تجدوا إلى ذلك سبيلاً بل لا بد أن يتعلق بكم بعض أسباب المنون. وهب أنكم على زعمكم دفعتم بالقعود هذا السبب الخاص، فادفعوا سائر أسباب الموت، وهذا لا يمكن لكم ألبتة. قال الزمخشري: (فإن قلت): فقد كانوا صادقين في أنهم دفعوا القتل عن أنفسهم بالقعود، فما معنى قوله: إن كنتم صادقين؟ (قلت): معناه أنّ النجاة من القتل يجوز أن يكون سببها القعود عن القتال، وأن يكون غيره. لأن أسباب النجاة كثيرة. وقد يكون قتال الرجل نجاته، ولو لم يقاتل لقتل، فما يدريكم أن سبب نجاتكم القعود وإنكم صادقون في مقاتلتكم وما أنكرتم أن يكون السبب غيره؟ ووجه آخر: إن كنتم صادقين في قولكم: لو أطاعونا وقعدوا ما قتلوا، يعني: أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقتلوا قاعدين، كما قتلوا مقاتلين. وقوله: فادرؤا عن أنفسكم الموت، استهزاءً بهم، أي إن كنتم رجالاً دفاعين لأسباب الموت فادرؤا جميع أسبابه حتى لا تموتوا انتهى كلامه. وهو حسن على طوله.
{ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون} قيل: هم قتلى أحد، وقيل: شهداء بئر معونة. وقيل: شهداء بدر. وهل سبب ذلك قول من استشهد وقد دخل الجنة فأكل كل من ثمارها: من يبلغ عنا إخواننا أنا في الجنة نرزق، لا تزهدوا في الجهاد. فقال الله: أنا أبلغ عنكم، فنزلت. أو قول من لم يستشهد من أولياء الشهداء: إذا أصابتهم نعمة نحن في النعمة والسرور، وآباؤنا وأبناؤنا واخواننا في القبور، فنزلت.
وقرأ الجمهور: ولا تحسبن بالتاء، أي ولا تحسبن أيها السامع. وقال الزمخشري: الخطاب لرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل أحد. وقرأ حميد بن قيس وهشام بخلاف عنه بالياء، أي: ولا يحسبن هو، أي: حاسب واحد. قال ابن عطية: وأرى هذه القراءة بضم الياء، فالمعنى: ولا يحسبن الناس انتهى.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الذين قتلوا فاعلاً، ويكون التقدير: ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتاً، أي: لا تحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً. (فإن قلت): كيف جاز حذف المفعول الأوّل؟ (قلت): هو في الأصل مبتدأ فحذف كما حذف المبتدأ في قوله: أحياء. والمعنى: هم أحياء لدلالة الكلام عليها انتهى كلامه. وما ذهب إليه من أن التقدير: ولا تحسبنهم الذين قتلوا أمواتاً لا يجوز، لأنَّ فيه تقديم المضمر على مفسره، وهو محصور في أماكن لا تتعدى وهي باب: رب بلا خلاف، نحو: ربه رجلاً أكرمته، وباب نعم وبئس في نحو: نعم رجلاً زيد على مذهب البصريين، وباب التنازع على مذهب سيبويه في نحو: ضرباني وضربت الزيدين، وضمير الأمر والشأن وهو المسمى بالمجهول عند الكوفيين نحو: هو زيد منطلق، وباب البدل على خلاف فيه بين البصريين في نحو: مررت به زيد، وزاد بعض أصحابنا أن يكون الظاهر المفسر خبراً للضمير، وجعل منه قوله تعالى: {وقالوا إن هي إلا حياتنا الدّنيا} التقدير عنده: ما الحياة إلا حياتنا الدّنيا. وهذا الذي قدره الزمخشري ليس واحداً من هذه الأماكن المذكورة. وأما سؤاله وجوابه فإنه قد يتمشى على رأي الجمهور في أنه: يجوز حذف أحد مفعولي ظن وأخواتها اختصاراً، وحذف الاختصار هو لفهم المعنى، لكنه عندهم قليل جداً. قال أبو عليّ الفارسي: حذفه عزيز جداً، كما أن حذف خبر كان كذلك، وإن اختلفت جهتا القبح انتهى. قول أبي علي. وقد ذهب الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن ملكون الحضرمي الإشبيلي إلى منع ذلك اقتصاراً، والحجة له وعليه مذكورة في علم النحو. وما كان بهذه المثابة ممنوعاً عند بعضهم عزيزاً حذفه عند الجمهور، ينبغي أن لا يحمل عليه كلام الله تعالى. فتأويل مَن تأوّل الفاعل مضمراً يفسره المعنى، أي: لا يحسبن هو أي أحد، أو حاسب أولى. وتنفق القراءتان في كون الفاعل ضميراً وإن اختلفت بالخطاب والغيبة.
وتقدم الكلام على معنى موت الشهداء وحياتهم في قوله: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أمواتاً بل أحياء} فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقرأ الحسن وابن عامر قتلوا بالتشديد. وروي عن عاصم: قاتلوا. وقرأ الجمهور: قتلوا مخففاً. وقرأ الجمهور: بل أحياء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: بل هم أحياء. وقرأ ابن أبي عبلة: أحياء بالنصب. قال الزمخشري: على معنى بل أحسبهم أحياء انتهى. وتبع في إضمار هذا الفعل الزجاج قال الزجاج: ويجوز النصب على معنى: بل أحسبهم أحياءً. ورده عليه أبو علي الفارسي في الإغفال وقال: لا يجوز ذلك، لأن الأمر يقين، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة، ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة. فوجهُ قراءة ابن أبي عبلة أن يُضمر فعلاً غير المحسبة اعتقدهم أو اجعلهم، وذلك ضعيف، إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر انتهى كلام أبي علي. وقوله: لا يجوز ذلك لأن الأمر يقين، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة معناه: أنَّ المتيقن لا يعبر عنه بالمحسبة، لأنها لا تكون لليقين. وهذا الذي ذكره هو الأكثر، وقد يقع حسب لليقين كما تقع ظن، لكنه في ظن كثير، وفي حسب قليل. ومن ذلك في حسب قول الشاعر:
حسبت التقى والحمد خير تجارة *** رباحاً إذا ما المرء أصبح ثاقلا
وقول الآخر:
شهدت وفاتوني وكنت حسبتني *** فقيراً إلى أن يشهدوا وتغيبي
فلو قدر بعد: بل أحسبهم بمعنى أعلمهم، لصحَّ لدلالة المعنى عليه، لا لدلالة لفظ ولا تحسبن، لاختلاف مدلوليهما. وإذا اختلف المدلول فلا يدل أحدهما على الآخر. وقوله: ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة غير مسلم، لأنه إذا امتنع من حيث المعنى إضماره أضمر غيره لدلالة المعنى عليه لا اللفظ. وقوله: أو اجعلهم، هذا لا يصح ألبتة، سواء كانت اجعلهم بمعنى اخلقهم، أو صيرهم، أو سمهم، أو القهم. وقوله: وذلك ضعيف أي النصب، وقوله: إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر إن عنى من حيث اللفظ فصحيح، وإن عنى من حيثُ المعنى فغير مسلم له، بل المعنى يسوغ النصب على معنى اعتقدهم، وهذا على تسليم إن حسب لا يذهب بها مذهب العلم.
ومعنى عند ربهم: بالمكانة والزلفى، لا بالمكان. قال ابن عطية: فيه حذف مضاف تقديره: عند كرامة ربهم، لأن عند تقتضي غاية القرب، ولذلك يصغر قاله سيبويه انتهى. ويحتمل عند ربهم أن يكون خبراً ثانياً، وصفة، وحالاً. وكذلك يرزقون: يجوز أن يكون خبراً ثالثاً، وأن يكون صفة ثانية. وقدَّم صفة الظرف على صفة الجملة، لأن الأفصح هذا وهو: أن يقدم الظرف أو المجرور على الجملة إذا كانا وصفين، ولأن المعنى في الوصف بالزلفى عند الله والقرب منه أشرف من الوصف بالرزق. وأن يكون حالاً من الضمير المستكن في الظرف، ويكون العامل فيه في الحقيقة هو العامل في الظرف.
قال ابن عطية: أخبر تعالى عن الشهداء أنهم في الجنة يرزقون، هذا موضع الفائدة. ولا محالة أنهم ماتوا، وإنَّ أجسادهم في التراب، وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين. وفضّلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم. فقوله: بل أحياء مقدمة لقوله: يرزقون، إذ لا يرزق إلا حي. وهذا كما يقول لمن ذم رجلاً. بل هو رجل فاضل، فتجيء باسم الجنس الذي تركب عليه الوصف بالفضل انتهى ما قاله ابن عطية. ولا يلزم ما ذكره من أن لفظة أحياء جيء بها مجتلبة لذكر الرزق، لكون الحياة مشتركاً فيها الشهيد والمؤمنون، لأنه يجوز أن يكون هذا الإخبار بحياة الشهداء متقدماً على الإخبار بأن أرواح المؤمنين على العموم حية فاستفيد، أو لا حياة أرواح الشهداء، ثم جاء بعد الإخبار بحياة أرواح المؤمنين. وأيضاً ففي ذكره النص على نقيض ما حسبوه وهو: كون الشهداء أمواتاً. والبعد عن أن يراد بقوله: يرزقون، ما يحتمله المضارع من الاستقبال. فإذا سبقه ما يدل على الالتباس بالوصف حالة الإخبار كان حكم ما بعده حكمه، إذ الأصل في الإخبار أن يكونَ من أسندت إليه متصفاً بذلك في الحال، إلا إن دلت قرينة على مضي أو استقبال من لفظ أو معنى، فيصار إليه.
{فرحين بما آتاهم الله من فضله} أي مسرورين بما أعطاهم الله من قربه، ودخول جنته، ورزقهم فيها، إلى سائر ما أكرمهم به، ولا تعارض بين: فرحين، وبين {إن الله لا يحب الفرحين} في قصة قارون. لأنّ ذاك بالملاذ الدنيوية، وهذا بالملاذ الأخروية. ولذلك جاء قلْ بفضل الله وبرحمته، فبذلك فليفرحوا وجاء: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}
ومن يحتمل أن تكون للسبب، أي: ما آتاهم الله متسبب عن فضله، فتتعلق الباء بآتاهم. ويحتمل أن تكون للتبعيض، فتكون في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد على ما، أي: بما آتاهموه الله كائناً من فضله. ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية، فتتعلق بآتاهم. وجوّزوا في فرحين أن يكون حالاً من الضمير في يرزقون، أو من الضمير في الظرف، أو من الضمير في أحياء، وأن يكون صفة لأحياء إذا نصب.
{ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم} وهم: جميع المؤمنين، أي: يحصل لهم البشرى بانتفاء الخوف والحزن عن إخوانهم المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم في الشهادة، فهم فرحون بما حصل لهم، مستبشرون بما يحصل لإخوانهم المؤمنين قاله: الزجاج وابن فورك وغيرهما. وقال قتادة وابن جريج والربيع وغيرهم: هم الشهداء الذين يأتونهم بعد من إخوانهم المؤمنين الذين تركوهم يجاهدون فيستشهدون، فرحوا لأنفسهم ولمن يلحق بهم من الشهداء، إذ يصيرون إلى ما صاروا إليه من كرامة الله تعالى.
قال ابن عطية: وليست استفعل في هذا الموضع بمعنى طلب البشارة، بل هي بمعنى استغنى الله واستمجد المرخ والعفار. انتهى كلامه. أما قوله: ليست بمعنى طلب البشارة فصحيح، وأما قوله: بل هي بمعنى استغنى الله واستمجد المرخ والعفار، فيعني أنها تكون بمعنى الفعل المجرد كاستغنى بمعنى غني، واستمجد بمعنى مجد، ونقل أنه يقال: بشِر الرجل بكسر الشين، فيكون استبشر بمعناه. ولا يتعين هذا المعنى، بل يجوز أن يكون مطاوعاً لأفعل، وهو الأظهر أي: أبشره الله فاستبشر، كقولهم: أكانه فاستكان، وأشلاه فاستشلى، وأراحه فاستراح، وأحكمه فاستحكم، وأكنه فاستكنّ، وأمرّه فاستمرّ، وهو كثير. وإنما كان هذا الأظهر هنا، لأنه من حيث المطاوعة يكون منفعلاً عن غيره، فحصلت له البشرى بابشار الله له بذلك. ولا يلزم هذا المعنى إذا كان بمعنى المجرد، لأنه لا يدل على المطاوعة. ومعنى: من خلفهم، قد بقوا بعدهم، وهم قد تقدّموهم إذا كان المعنى بالذين لم يلحقوا الشهداء، وإن كان المعنيّ بهم المؤمنين فمعنى لم يلحقوا بهم أي: لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم.
{أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} وجوزوا في إعراب ويستبشرون أن يكون معطوفاً على فرحين ومستبشرين كقوله: {صافات ويقبضن} أي قابضات وأن يكون على إضمارهم. والواو للحال، فتكون حالية من الضمير في فرحين، أو من ضمير المفعولين في آتاهم، أو للعطف.
ويكون مستأنفاً من باب عطف الجملة الاسمية أو الفعلية على نظيرها.
وإن هي المخففة من الثقيلة، واسمها محذوف ضمير الشأن، وخبرها الجملة المنفية بلا. وإن ما بعدها في تأويل مصدر مجرور على أنه بدل اشتمال من الذين، فيكون هو المستبشر به في الحقيقة. أو منصوب على أنه مفعول من أجله، فيكون علة للاستبشار، والمستبشر به غيره. التقدير: لأنه لا خوف عليهم. والذوات لا يستبشر بها فلا بد من تقدير مضاف مناسب، وتقدّم تفسير: لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فأغني عن إعادته.
وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على ازدياد الطاعة، والجد في الجهاد، والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم، وإحماد لحال من يرى نفسه في خير فيمتنى مثله لإخوانه في الله، وبشرى للمؤمنين بالفوز في المآب قاله: الزمخشري. وهو كلام حسن.
قيل: وتضمنت هذه الآيات من ضروب البديع، الطباق في قوله: لقد منّ الله الآية، إذ التقدير منّ الله عليهم بالهداية، فيكون في هذا المقدّر. وفي قوله: في ضلال مبين، وفي: يقولون بأفواههم، والقول ظاهر ويكتمون. وفي قالوا لإخوانهم وقعدوا، إذ التقدير حين خرجوا وقعدوا هم. وفي: أمواتاً بل أحياء وفي: فرحين ويحزنون. والتكرار في: وليعلم المؤمنين، وليعلم الذين نافقوا الاختلاف متعلق العلم. وفي فرحين ويستبشرون. والتجنيس المغاير في: أصابتكم مصيبة، والمماثل في: أصابتكم قد أصبتم. والاستفهام الذي يراد به الإنكار في: أو لما أصابتكم. والاحتجاج النظري في: قل فادرأوا عن أنفسكم. والتأكيد في: ولا هم يحزنون. والحذف في عدة مواضع لا يتم المعنى إلا بتقديرها.


الحظ النصيب، وإذا لم يقيد فإنما يستعمل في الخير. ماز وميز: فصل الشيء من الشيء. قال يعقوب: هما لغتان بمعنى واحد انتهى. والتضعيف ليس للنقل. وقيل: التشديد أقرب إلى الفخامة وأكثر في الاستعمال، ألا ترى أنهم استعملوا المصدر على نية التشديد فقالوا: التمييز، ولم يقولوا الميز انتهى. ويعني: ولم تقولوه مسموعاً، وأما بطريق القياس فيقال. وقيل: لا يكون ما زالا في كثير من كثير، فأما واحد من واحد فيتميز على معنى يعزل، ولهذا قال أبو معاذ: يقال: ميزت بين شيئين، ومزت بين الأشياء. اجتبى: اختار واصطفى، وهي من جبيت الماء، والمال وجبوتهما فاجتبى، افتعل منه. فيحتمل أن تكون اللام واو أو ياء.
{يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين} كرر الفعل على سبيل التوكيد، إن كانت النعمة والفضل بياناً لمتعلق الاستبشار الأول، قاله: الزمخشري. قال: وكرّر يستبشرون ليعلق به ما هو بيان لقوله: {أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} من ذكر النعمة والفضل، وأن ذلك أجر لهم على إيمانهم، يجب في عدل الله وحكمته أن يحصل لهم ولا يضيع انتهى. وهو على طريقة الاعتزال، في ذكره وجوب الأجر وتحصيله على إيمانهم. وسلك ابن عطية طريقة أهل السنة فقال: أكد استبشارهم بقوله: يستبشرون، ثم بين بقوله: وفضل إدخالهم الجنة الذي هو فضل منه، لا بعمل أحد، وأما النعمة في الجنة والدرجات فقد أخبر أنها على قدر الأعمال انتهى.
وقال غيرهما: هو بدل من الأول، فلذلك لم يدخل عليه واو العطف. ومن ذهب إلى أنّ الجملة حال من الضمير في يحزنون، ويحزنون هو العامل فيها، فبعيد عن الصواب. لأن الظاهر اختلاف المنفى عنه الحزن والمستبشر، ولأن الحال قيد، والحزن ليس بمقيد. والظاهر أنَّ قوله: يستبشرون ليس بتأكيد للأول، بل هو استئناف متعلق بهم أنفسهم، لا بالذين لم يلحقوا بهم. فقد اختلف متعلق الفعلين، فلا تأكيد لأن هذا المستبشر به هو لهم، وهو: نعمة الله عليهم وفضله. وفي التنكير دلالة على بعض غير معين، وإشارة إلى إبهام المراد تعظيماً لأمره وتنبيهاً على صعوبة إدراكه، كما جاء فيها «ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» والظاهر تباين النعمة والفضل للعطف، ويناسب شرحهما أن ينزل على قوله: {للذين أحسنوا الحسنى} وزيادة فالحسنى هي النعمة، والزيادة هي الفضل لقرينة قوله: أحسنوا وقوله {للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم}
وقال الزجاج: النعمة هي الجزاء والفضل زائد عليه قدر الجزاء. وقيل: النعمة قدر الكفاية، والفضل المضاعف عليها مع مضاعفة السرور بها واللذة. وقيل: الفضل داخل في النعمة دلالة على اتساعها، وأنها ليست كنعم الدنيا.
وقرأ الكسائي وجماعة: وإن الله بكسر الهمزة على الاستئناف ويؤيده قراءة عبد الله ومصحفه: والله لا يضيع أجر. وقال الزمخشري: وعلى أن الجملة اعتراض، وهي قراءة الكسائي انتهى. وليست الجملة هنا اعتراضاً لأنها لم تدخل بين شيئين أحدهما يتعلق بالآخر، وإنما جاءت لاستئناف أخبار. وقرأ باقي السبعة والجمهور: بفتح الهمزة عطفاً على متعلق الاستبشار، فهو داخل فيه. قال أبو علي: يستبشرون بتوفير ذلك عليهم، ووصوله إليهم، لأنه إذا لم يضعه وصل إليهم ولم يبخسوه. ولا يصح الاستبشار بأن الله لا يضيع أجر المؤمنين، لأن الاستبشار إنما يكون بما لم يتقدم به علم، وقد علموا قبل موتهم إن الله لا يضيع أجر المؤمني

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10